حسب سوسيولوجيين ومراقبين، لم تعرف ظاهرة الدجل والشعوذة في المغرب تراجعا كبيرا خلال السنوات العشر الأخيرة، رغم انخفاض نسبة الأمية في المغرب من 43 في المائة سنة 2004، إلى حوالي 28 في المائة سنة 2012، حيث لوحظ أن الظاهرة انتقلت لتشمل حتى الفئات المثقفة، وباتت لا تقتصر فقط على الأميين.
امرأة لم ترزق بأولاد، شاب عاطل عن العمل، فتاة تبحث عن زوج، زوجة تريد أن يخضع زوجها لطلباتها وأوامرها، مدير يرغب في أن تنافس شركته مثيلاتها في السوق.. كل هؤلاء وغيرهم يجدون ملاذهم عند السحرة، كل هؤلاء يتوقعون أن المشعوذ هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يجد الحلول لمشاكلهم العالقة.
واللافت أن هؤلاء الأشخاص لا يزورون المشعوذ مرة واحدة، بل يصبح المشعوذ في حياتهم مثل الطبيب يترددون عليه في كل وقت وحين، مما يطرح سؤالا محوريا مفاده: هل يقول المشعوذون الحقيقة؟..سؤال حاولنا الإجابة عليه عبر هذا التقرير الميداني.
ولتأكيد أو نفي فرضية أن المشعوذين "يقولون الحقيقة"، قمنا بزيارة عدد من المشعوذين بمدينة سلا التي تشهد انتشارا ملحوظا لهذه الظاهرة، حيث انتحلنا شخصيات غير حقيقية واعتمدنا قصصا خيالية، واستمعنا لوصفاتهم وحلولهم.
الحاجة محجوبة و"الديار"
البداية كانت مع الحاجة محجوبة، كما يلقبها زبناؤها وكما هو مكتوب على لافتة تضعها على باب مقر عملها.. في اليوم الأول من زيارتنا لها صادف يوم الأحد، وجدنا الباب مقفلا مكتوبا عليه "الحاجة محجوبة لا تعمل اليوم"، سألنا أحد الشباب فأخبرنا أنها لا تعمل يومي الجمعة والأحد، وأنها تبدأ عملها على الساعة الثامنة صباحا، وتغلق باب مقرها مباشرة بعد صلاة العصر.
عاودنا الزيارة لها في اليوم الموالي، وبمجرد دخول منزلها لفت انتباهنا تواجد عدد كبير من الزائرين لها، حيث يصل عددهم إلى أزيد من 15 شخصا جلهم من النساء والفتيات، تبدو من خلال نقاشاتهم وأحاديثهم أثناء انتظار دورهم مع الحاجة محجوبة أن أغلبهم من الفئة المثقفة، "الحاجة محجوبة تجد الحلول لكل مشاكلنا، تبارك الله عليها ضابطة أمورها مزيان" تقول فتاة جامعية بصوت عال، لترد عليها امرأة من الأربعينات "خص الواحد غير يفيض النية حاجتو غادي تكون مقضية مع الحاجة محجوبة".
أتى دورنا، أنا سلمى وابن عمي المهدي مع الحاجة محجوبة. وقبل أن نجلس سألتني "شي زمان؟"، وكأنها تقول لي هل تبحثين عن زوج؟ علما أن القصة الخيالية التي نسجناها هي أنني امرأة متزوجة منذ ثلاث سنوات، ولم أرزق بالأبناء بعد، أجبتها عن سؤالها بأنني متزوجة وأريد أن أرزق بالأولاد، بدأت تسألني هل زرت الطبيب أنت وزوجك؟ أجبت بنعم، هل سبق لك أن استعملت "العشوب"، أجبتها بالنفي، وقالت لي وفي يديها "التسبيح" وعيناها مركزتان علي، "راجلك ولد الناس ما فيه بلية وما فيه الزيغة، كيبغيك، مزوجة نتي وياه على سنة الله ورسوله وعن حب، وحتى هو باغي لولاد، وداير معك النية وغادي معك نيشان".
سألتني "واش فايت ليك فوسختي" أجبتها بـ"لا، أنت أول من زرتها بهذا الخصوص، وإن شاء الله تكون على يديك البركة، وقاطعتني قائلة "شوفي نختصرو فالهضرة والكلام هادشي لي عندك نتي والمسيو ديالك متعلق بالديار".
سألناها ما المقصود بالديار، أجابت "السحر كاين، الجن كاين، المسائل الشيطانية كاينة وانتوما شي واحد داير ليكوم شي حاجة"، سألـتها ما الحل إذن، فقالت "غادي نعطيك التفوسيخة (الفاسوخ البيض، الحلبة الحايلة، حجرة ديال الفك، العرعار وليميعة) وإن شاء الله ميكون غير الخير".
الحاجة محجوبة لم تستطع أن تكتشف أننا نقوم فقط بتمثل أدوار غير حقيقية، قدمت لنا وصفاتها ومعلومات عن حياتنا، ولجأت إلى استعمال أسلوب الحيل معنا لإقناعنا وتمويهنا بأنها تقول الحقيقة.
خلود السباعي، أستاذة علم النفس الاجتماعي، أكدت بهذا الصدد أن "الدجالين وخاصة منهم الناجحين هم سوسيولوجيون من الدرجة الرفيعة، يعرفون قضايا المجتمع، وعندهم اطلاع على هموم الفئات، يعلمون أن الفتاة الصغيرة الغير متزوجة طموحها سيكون هو الزواج، والشاب ستكون مشكلته العمل، إلى غير ذلك..".
تفوسيخة الفقيه عمر
ودعنا الحاجة محجوبة، وانتقلنا إلى حي "كريمة" بسلا، حيث يوجد مقر "الفقيه عمر"، دلتنا عليه فتاة من ذات الحي، حيث قالت لنا جوابا على سؤالنا هل تعرفين الفقيه عمر "آه كنعرفو عامين وهو هنا، وكاع الناس كيعرفوه وخالي أنا كان في الخارج وخرج من الخدمة وخدموا".
أتممنا المسير إلى أن وصلنا لبيت الفقيه، استقبلتنا زوجته على أنغام موسيقى شعبية صاخبة، وقالت لنا إنه عند زبنائه في مدينة القنيطرة، وبعد اتصالها به أخبرها أن نعيد زيارته في اليوم الموالي بعد صلاة المغرب، وقبل توديعنا لزوجة الفقيه قالت لنا "لكي تعلمي أنه محترف، ويقول الحقيقة ما عليك إلا قول اسمك ونسبك، و"المقصود به"، وسيقول لك مشكلتك.
في اليوم الموالي بعد صلاة المغرب، عدنا لزيارة "الفقيه عمر" بعد أن نسجنا خيوط قصة وهمية، وأسماء مستعارة. أثناء انتظارنا في قاعة الانتظار التي تتوسط المنزل الصغير للفقيه، والذي تبدو عليه ملامح الهشاشة، رصدنا قصة فتاة تمتهن الدعارة بدعم من والدتها التي رافقتها في زيارتها إلى الفقيه عمر، من أجل طلب "حجابات" تمكنها من تيسير مهمتها، حيث أنصتنا لمكالمتها مع "سعودي" أنهت خدمتها معه للتو وتوجه إلى بلده، لتستمر الفتاة في البحث عن طريقة تجعله "يموت فيها" تقول لوالدتها في همس.
250 درهم هو المبلغ الذي طلبه منا الحاج عمر، مقابل جلسة لم تدم أكثر من 15 دقيقة لم نحصل فيها على أية معلومة واحدة صحيحة، جلسة حاول فيها السيد عمر استدراجنا في الحديث ليحصل على كلمات مفاتيح تمكنه من إتمام الفراغ بين جملنا، سألنا عن الاسم والنسب ومصابنا، وبعدها بدأ بالحديث: "أول حاجة طعامك دكر لي كلاه كينكر، شعرك كيطيح، وجهك كيتبدل ليه اللون، العادة الشهرية كتجيك بالوجع، عندك عداوة ما بين العائلة والعائلة على ورث ورقة هدرة وكلام، الغمة كتشدك في المعدة، كتجيك الطجة من دار راجلك، جاوبي بصراحة.." سايرنا الفقيه في الحديث فواصل "عندك التقاف على الولادة، نتي ماشي راجلك.."
الحاج عمر أوهمنا بعد ذلك بأنه استطاع كشف بعض الأحداث الواقعية، مستعينا ببعض الحيل، كالبيضة التي أخرج منها سائلا لزجا أسود اللونن كدليل منه على أن تأخر سلمى في الإنجاب هو سحر من أحد أفراد عائلة زوجها، أتممنا الدور، ومثلنا الدهشة والتأسف على مصابنا المزعوم، واعتذرنا للفقيه، لأننا سنؤدي ثمن الزيارة في اليوم الموالي عندما نعود لأخذ مستلزمات "التفوسيخة".
الشعوذة بين القانون والاجتماع
ثمن "التفوسيخة" هذه، والذي يطلبه المشعوذ من زبنائه، ألا يعتبر نصبا واحتيالا، سؤال طرحناه على عبد المالك زعزاع، متخصص في المجال القانوني، فقال إن "جميع أنشطة الشعوذة يمكن أن يطالها القانون الجنائي المغربي، على اعتبار أن جل الأعمال المتعلقة بالشعوذة هي عمليات نصب واحتيال على ضحايا يعتقدون أنه من الممكن أن تتحقق لهم مجموعة من المكاسب، أو تدفع عنهم مجموعة من الأضرار".
وأوضح زعزاع أن "هذه الأعمال يمكن أن تضر بصحة المواطنين الجسدية و العقلية، وأحيانا تتم السيطرة على مجموع الأموال التي بحوزتهم"، مضيفا أن "هؤلاء الدجالين غالبا ما يفلتون من العقاب، ولا يتم وضع شكايات ضدهم، لأن المواطنين يخشونهم ويخافونهم، لمعتقدات فاسدة لا علاقة لها بعقيدة الإسلام التي تنبذ الشعوذة والأعمال الخرافية".
ومن جهته قال علي الشعباني، أستاذ علم الاجتماع، إن المجتمع المغربي تغير فقط ظاهريا على مستوى العمران، وبعض المظاهر الأخرى مثل خروج المرأة للعمل وزيادة التمدرس، لكن عندما ننظر إلى العمق، وإلى جذور التفكير نجد المغربي لازال مثقلا بالعديد من المعتقدات والأساطير والخرافات".
وتابع الشعباني أن "هذه المسألة لا فرق فيها بين من هو متمدرس ومن هو غير متمدرس، أو من له مستوى اقتصادي واجتماعي معين أو عاطل عن العمل، فمختلف الفئات تشترك في الإقبال على الشعوذة" يضيف المتحدث مبرزا أن ظاهرة الشعوذة لم تتراجع خلال السنوات الأخيرة لأن دكاكين المشعوذين والسحرة لازلت متواجدة في الأحياء والمدن المغربية".
"حتى إن كانت هناك محاربة للأمية في المجتمع المغربي، فإن هناك محاربة على الورق، فالأمية لازلت متغلغلة في المجتمع المغربي، والإحصائيات التي تشير إلى انخفاض مستوى الأمية إلى حوالي ثلاثين في المائة غير دقيقة" يورد الباحث السوسيولوجي.
الشعوذة حتى في الامتحان
نور الدين، تلميذ في الباكالوريا أخفق في سنته الأولى، وقررت والدته أن ينجح في السنة الموالية، ليس ببذل المزيد من المجهود، ولكن بالتوسل بالحاج السليماني بمنطقة الواد بسلا صاحب الطلاسم، كما جاء في حديث الشاب.
"في سنتي الأولى كنت أدرس جيدا، لكنني لم أتمكن من الحصول على نتيجة مرضية، مما أدى إلى رسوبي، إحدى صديقات أمي نصحت أمي بالتوجه عند الحاج السليماني بمنطقة الواد بسلا، وطلب من أمي في الزيارة الأولى أن تعود برفقتي وإحضار "النقلة" التي كنت قد حضرتها، وفعلا ذهبنا عنده وقام ببخر النقلة، وبديت كنتخطاها في المجمر، وفي يوم الامتحان وضعت النقلة فوق الطاولة، وقمت بنقل كل ما أريد، ولم ينتبه الأساتذة إلى وجود شيء على طاولتي".
ما قاله نور الدين دفعنا إلى طلب تفسيرات ما حصل معه داخل الفصل في يوم الامتحان، فقال لحسن السكنفل، رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الصخيرات تمارة إن "هذا وهم، لأن الطرق التي يستعملها الغشاشون في الامتحان مبتكرة جدا ومتعددة".
اسكنفل أردف أنه "من الصعب جدا على الإنسان أن يراقب الممتحنين مائة بالمائة، بالإضافة إلى أن هناك بعض الأساتذة لا يؤدون دورهم كما ينبغي، فالمسألة ليست مرتبطة بحجابات أو طلاسم، بقدر ما ترتبط بحيل وظروف اجتياز الامتحان" يؤكد اسكنفل.
تفسيرات الإقبال على المشعوذ
من خلال ما تقدم من لقاءات مع مشعوذين تختلف "تخصصاتهم"، فإن سؤال "هل يقول المشعوذون الحقيقة" جوابه بالنفي، لكن يبقى السؤال، مادام هؤلاء لا يقولون الحقيقة، أي يكذبون ويحتالون على الناس، فما الذي يفسر إقبال المغاربة عليهم.
سؤال أجابت عنه الباحثة الاجتماعية خلود السباعي بأن "الإنسان من طبعه كما يشير علم النفس الاجتماعي كسول معرفيا، ويعني أنه يبحث عن المعرفة الجاهزة، ويحتاج إلى المعرفة الجاهزة عندما ترتفع عنده حدة الضغط النفسي الذي نعيشه جراء درجة التوتر، وكثرة المشاغل والاحتياجات".
واسترسلت الباحثة "كلما ارتفعت الضغوطات النفسية التي تمارس على الإنسان، إلا تغذى هذا الكسل المعرفي، فتزداد حدة ما هو عاطفي وما هو نفسي، ويقل مستوى التفكير العقلي والمنطقي، لتحقيق ذلك يكون اللجوء إلى الدجل"، مضيفة أن "الدجالين الذين يعملون في هذا المجال هم أيضا يتطورون بتطور المجتمعات، حيث نجدهم ذوو مستوى معين من التعليم والذكاء".
ومن جهته لفت السكنفل الانتباه إلى أن "الدجال لو كان ينفع الناس لنفع نفسه أولا، "لأن أغلب الدجالين تكون وضعيتهم مزرية من الناحية الاجتماعية، إلا من كان يستخدم طرق احتيال ونصب يجني من ورائها الأموال الطائلة".
تصنيف :